اذهب إلى المحتوى الرئيسي
بقلم : ملوال دينق - ٣ مايو ٢٠١٩

راي: الصحافة وصراع البقاء: قراءة في معوقات صناعة الصحافة في جنوب السودان

في نهار هادئ، نهاية يناير 2015، بمقاطعة راجا، التابعة لولاية غرب بحر الغزال السابقة، فُجع الوسط الصحفي، بحادثةٍ بشّعة، كان ضحيتها خمس صحفيين أثناء عودتهم من مهمة رسمية داخل المُقاطعة بمعّية المُحافظ، جيمس بنجامين بوبو، الصحفيين هم (موسى محمد ضحية (أبو كلام)، بطرس مارتن خميس، رندا جورج أدم، داليا ماركو ترتيزيو، وأدم جمعة أدم) إلى جانب مرافقين آخرين .. جميع الصحفيين كانوا يعملون في الإذاعة المحلية في مدينة راجا (FM 95 )، عدا بطرس مارتن الذي كان مصوراً بتلفزيون جنوب السودان فرع واو. موسى محمد ضحية (أبو كلام) كان مديراً لإذاعة راجا.

حادثة الأحد الموافق 25 يناير 2015 كانت كميناً نصبه مسلحون ضد موكب المُحافظ بمنطقة "ياقورو" قبالة كبري "مدبل" على طريق "راجا – منقايات – سبو" أثناء عودته من زيارة تفقدية لـ "فايام سبو" جنوب شرق راجا.

اعترض المسلحون الموكب، وطوقوا سيارة الصحفيين، وفتحوا النار في جميع الركاب دون رأفة، ومثلوا بالجثث بتقطيعها، ثم أضرموا النيران في العربة. وأسفر الهجوم عن مقتل (13) شخصاً، من بينهم الصحفيين، وموظفي الحكومة، وأفراد من القوات النظامية، بينما نجا المحافظ الذي كان يقل عربة أخرى - تعرض لإصابة طفيفة في ركبته – بالإضافة إلى سائقه، وآخرين.   

تضاربت الأنباء الرسمية في البدء حول هوية المعتدين، ولكن سرعان ما وجهت حكومة الولاية أصابع الأتهام نحو مليشيات جيش الرب الأوغندية، المصنفة دولياً كمنظمة إرهابية، بشن الهجوم.

وقال المحافظ جيمس بنجامين إن "التحقيقات أكدت أن مليشيا جيش الرب الأوغندية هي التي ارتكبت الجريمة البشعة".(1).

وأضاف أن حكومته مصرة على ملاحقة المعتدين والقاء القبض عليهم، والتأكد من هويتهم، ومن ثم تقديمهم للعدالة. لم يتحقق ذلك حتى موعد كتابة هذه السطور، أي بعد أربع سنوات وأربعة أشهر.

هناك أحداث أخرى لم تصل فيها التحقيقات إلى نتائج تذكر، ومنها حادثة إغتيال الكاتب الصحفي "إيزايا أبراهام" في ديسمبر 2012 بمنزله بجوبا، ومقتل الصحفي بصحيفة "كوبريتيف" الإنجليزية، "بيتر موي جوليوس"، يوم الأربعاء 19 أغسطس 2015 بعد أن أطلق مجهولون النار عليه أثناء عودته إلى منزله بحي الجبل بجوبا. والقلق من خطورة الوضع مرده غياب المساءلة، مما يدفع المجرمين إلى الإعتقاد أن بإمكانهم الإفلات من العقاب، ويشجعهم على إرتكاب المزيد من الإنتهاكات والفظائع ضد الأبرياء والعزل.

ومع ذلك، تظل "مسؤولية التحقيق العادل والنزيه، والمسائلة القضائيّة، وضمان عدم الإفلات من العقاب، وكشف ملابسات إغتيالهم، وتمليك الرأى العام الحقائق فى مقتلهم مسؤولية الدولة والحكومة فى جنوب السودان، ونطالب بالإنصاف، حتى لا تتكرّر هذه الجرائم البشعة بحق الصحفيين"(2).

هذا المدخل المأساوي، لا يكشف فقط عن خطورة بيئة العمل الصحفي والأوضاع الأمنية في جنوب السودان، التي تدهورت بشكل مريع منذ إندلاع الأزمة السياسية في ديسمبر 2013 ، بل يبين أيضاً مدى عجز الحكومة في الاضطلاع بمهامها وفرض سيادة القانون وضبط الأمن والنظام وحماية الصحفيين، وكذلك يعكس تماطل الجماعات المسلحة في منع إستهداف الصحفيين والتعامل معهم كأهداف مشروعة، خاصة في مناطق النزاعات.

يطل علينا اليوم الجمعة، الثالث من مايو 2019، احتفال الدورة السادسة والعشرين لليوم العالمي لحرية الصحافة (World Press Day) الذي تنظمه "يونسكو" بالإشتراك مع مفوضية الإتحاد الأفريقي وحكومة جمهورية إثيوبيا الديمقراطية الاتحادية. ويركز احتفال هذا العام في أديس أبابا خلال الفترة من 1 إلى 3 مايو تحت شعار "الإعلام من أجل الديمقراطية: الصحافة والإنتخابات في زمن التضليل الإعلامي"، على التحديات الراهنة التي تواجهها وسائل الإعلام في فترات الانتخابات، والقدرات الكامنة في وسائل الإعلام على المساعدة في إرساء السلام والمصالحة"، بحسب يونسكو.

ويعمل الاحتفال، على تذكير الحكومات للوفاء بالتزاماتها تجاه حرية الصحافة، ومناقشة أوضاع المهنة وأخلاقيات العمل، بالإضافة إلى إحياء ذكرى الصحافيين الذين ضحوا بحياتهم في سبيل الحصول على المعلومات ونشرها للجمهور.

وإذ نحي أيضاً هذا الاحتفال العظيم نستحضر بفخر واعتزاز تضحيات ونضالات زملائنا الصحفيين والصحفيات في كل أنحاء العالم، الذين يعملون بتفان وإخلاص في ظروف قاهرة من أجل إعلاء راية الصحافة، خاصة صحفيي جنوب السودان الذين يعملون في مناخٍ خطرٍ ومعادٍ للحريات.

في هذه الرسالة المفتوحة نناقش ما أسميناها "معوقات صناعة الصحافة في جنوب السودان"، بالتركيز على تجربة الصحافة ما بعد الاستقلال.

عرض مختصر لأوضاع الصحافة في جنوب السودان:

ارتبطت نشأة الصحافة في جنوب السودان مطلع القرن الماضي المبشرين المسيحيين. وصدرت أول صحيفة في الجنوب من قبل الكنيسة الكاثوليكية بمدينة واو حوالي العام  1930 باسم ماسنجر Messenger (3) وكانت تصدر باللغة الإنجليزية، وتنشر تعاليم الدين وأنشطة التبشير والكنيسة. وبعدها صدرت عدة صحف باللغات المحلية vernaculars  تحت إشراف البعثات التبشيرية للكنيسة الكاثوليكية والصحفيين الجنوبيين البارزين في الحقل الإعلامي خلال الفترة من 1940 - 1960 ، إبتداءً من صحيفة Ruru Gene، والتي تعني بالعربية "الطريق القويم"، وكانت تصدر بلغة الزاندي، ويحررها قس يدعى (الاب شيقولا) كان يجيد الكتابة بلغة الزاندي، وساعده القس (بياترو انغيلي) وآخرين. وهناك صحيفة "أقام لونق" Agamlong التي كانت تصدر بلغة الدينكا، وعمل على تحريرها القس (فيلبرتو غيولي)، وهو أنثروبولوجي وموسيقى يجيد لغة الدينكا، وصحيفة Lelego بلغة "مادي Madi" وتعني "النجمة"، وكان يشرف على تحريرها القس وخبير التعليم الإيطالي (جوزيف باج) (4). وصدرت بعد ذلك عدة صحف ومجلات في المدارس الثانوية بجوبا، واو، وملكال. ومع ازدهار الصحافة الوطنية في السودان قامت عدة صحف خاصة مملوكة لناشرين جنوبيين، أشهرها صحيفة اليقظة Vigilant The لناشرها داريوس بشير، التي صدرت بالخرطوم في 1 فبراير 1965، وكان يرأس تحريرها شان ملوال شان، وخلفه في المنصب بونا ملوال مدوت، (5). ثم صدرت أول صحيفة باللغة العربية في الجنوب في العام 1980، باسم الوحدة Al Wahida  

لمالكها أبيل الير كوي، وأشرف على تحريرها شول كوانج دينق، وتواصلت صدور الصحف والمجلات الحكومية والخاصة تباعاً حتى التاريخ القريب، نذكر منها "نايل ميرور The Nile Mirror Newspaper، ساوزرن سودان ماغازين Southern Sudan Magazine، هيرتيج جورنال  Heritage Journal ، إكواتوريا نيوز بولتين Equatoria News Bulletin، ابر نايل نيوز ليتر Upper Nile Newsletter، غزالين بولتين The Ghazalian Bulletin، فيوتشر ماغزين Future Magazine، قراس كرتين Grass Curtain، ساوث سودان نيوز ليتر Southern Sudan Newsletter، ذي قايدنق ستار The Guiding Star وسودان تايمز  Sudan Times (6).

بالعودة إلى التجربة الحديثة للصحافة عقب إستقلال جنوب السودان عن دولة السودان في 9 يوليو 2011، نجد أنها قامت على إرث الصحافة السودانية، سواء عن طريق جهود فردية أو جماعية لكوادر مشبعة بخبرات مختلفة عملت لسنوات في الحقل الإعلامي السوداني. وعموماً، لا يمكن الحديث عن تاريخ منفصل للصحافة الجنوبسودانية دون ربطها بالصحافة السودانية. وتعمل في الساحة مدرستان صحفيتان: صحافة ناطقة باللغة الانجليزية (لغة الدولة الرسمية)، وصحافة ناطقة بالعربية (لغة الشارع). وتستمد المدرستان الخبرة والممارسة من الصحافة السودانية، بالإضافة إلى بعض التجارب الفردية في صحافة شرق أفريقيا في الصحافة الإنجليزية. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى بعض الصحف: "خرطوم مونتور الإنجليزية - تحولت عقب الاستقلال إلى جوبا مونتور Juba Monitor" وكان يرأس تحريرها الصحفي المخضرم الفريد تعبان، الذي غيبه الموت نهاية الأسبوع الماضي بالعاصمة الاوغندية كمبالا إثر علة مرضية. ويعد تعبان من رواد الصحافة الوطنية وأحد اعمدتها الرئيسة، واشتهر كمراسل لهيئة الإذاعة البريطانية BBC سابقا في السودان، وأنفق أكثر من أربعين عاماً في المجال. وتشرف على تحرير الصحيفة حالياً الصحفية الشابة "آنا نمريانو"، وكذلك تجربة صحيفة ذي سيتزن الإنجليزية The Citizen التي كان يحررها الصحافيان المخضرمان نيال بول أكين وفيكتور كيري واني، وأغلقت الصحيفة بقرار من الأمن في 4 أغسطس 2015.

وفي مجال الصحافة العربية برزت "صحيفة المصير" التي صدرت عقب الاستفتاء في فبراير 2011، وكانت أول صحيفة ناطقة بالعربية تعمل بعد استقلال جنوب السودان، وترأس تحريرها الصحفي أتيم سايمون مبيور وخلفه مثيانق شريلو يل، والإثنان بدءا العمل الصحفي في الخرطوم. واستطاعت الصحيفة في بدايتها أن تحقق إنتشاراً واسعاً، وإستمرت لمدة أربع سنوات حتى توقفت عن الصدور في يونيو 2014 على خلفية انضمام رئيس مجلس إدارتها السابق والمساهم الرئيسي، الدكتور ضيو مطوك ديينق، إلى المعارضة المسلحة بقيادة الدكتور ريك مشار. هناك أيضاً تجربة صحيفة المستقبل التي كان يحررها الصحفي الراحل لام كوي لام، وصحيفة 9 يوليو التي ترأس تحريرها الصحفي أبراهام مليك، وصحيفة الرأي التي كان يحررها الصحفي وزير مايكل لياه، وتوقفت أيضا في أغسطس 2015 بقرار من الأمن الوطني بسبب إنضمام أحد أعضائها المؤسسين للمعارضة، وتجربة صحيفة الوحدة التي ترأس تحريرها الصحفي بحيرات بختان. وفي الصحافة الرياضية نجد تجربة صحيفة المصير سبورت التي كان يحررها الصحفي قور مشوب، وصحيفة قوون التي ترأس تحريرها الصحفي مكير وين بوك، إلى جانب الصحف الإجتماعية وصحف التسلية وصحف سياسية ورياضية أخرى. وصولاً إلى اليوم، نجد تجربة صحيفة الموقف وصحيفة الوطن، إلى جانب صحيفة جوبا مونتور التي سبقت الإشارة إليها، وصحيفة ذي دون الإنجليزية  The Dawn التي يترأس تحريرها الصحفي إيمانويل مونجشول.

لم تقم الصحافة الوليدة على أسس راسخة وقواعد متينة، بل نتجت كأحد متطلبات المرحلة لسد الفراغ العريض الذي أعقب غياب الصحافة السودانية، ومحاولة لإبراز المشهد الحقيقي لأحدث دول العالم في مواجهة الآلة الإعلامية السودانية في تلك الفترة الحساسة والمفصلية. وكان طبيعياً أن تترنح في منتصف الطريق وتفشل في مجابهة التحديات والمعوقات مجاراة نسق التطورات في الساحة.

أما على الصعيد الرسمي، فلم تكن هنالك سياسات واستراتيجيات واضحة وواعية من قبل الحكومة للنهوض بالصحافة والإعلام ووضع اللبنات الأساسية لـ "منظومة إعلامية متكاملة"، وتأخرت صياغة قوانين الإعلام، وتكوين المؤسسات المختصة، مثل سلطة الصحافة، وهيئة البث القومي، ومفوضية الإعلام لعدة سنوات قبل إجازتها لاحقاً. وتعاني المؤسسات الإعلامية القومية مثل الإذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء الرسمية من أزمة الرؤية والتخطيط والتنظيم، وقلة الكوادر المؤهلة، وغياب البنية التحتية، وضعف الميزانيات.

على صعيد الصحافة، تمر صناعتها بظروف حرجة تهدد البقاء والاستمرارية. تدهورت الأوضاع في البلاد عقب الأزمة السياسية في ديسمبر 2013، لتخلف آثاراً كارثية على كافة المناحي. إرتفعت أسعار طباعة الصحف لتصل ارقاماً قياسياً بسبب التضخم.

وتقلصت عدد الصفحات المطبوعة من أربع وعشرين صفحة في عامي 2011 و 2012 وست عشرة صفحة قبل سنتان، إلى اثنتا عشرة صفحة من القطع النصفي حالياً. وتراجع أيضاً متوسط النسخ المطبوعة إلى 1000 ألف نسخة فقط، بعد أن كانت بعض الصحف تطبع حوالي 2.500  نسخة قبل الأزمة.

هذا الوضع الاقتصادي الضاغط، وفي ظل ممانعة الحكومة في دعم صناعة الصحافة، أجبر حوالي عشرة صحف على التوقف عن الصدور، بينما أغلقت أخرى بقرار من السلطات. كما أجبر الوضع المادي الصعب والمضايقات والاستهداف الممنهج عدداً من الصحفيين المتمرسين على الفرار بجلدهم إلى الخارج أو هجر المهنة والبحث عن فرص عمل أفضل. على سبيل المثال، يتقاضى المحرر في الصحيفة راتباً قدره 5.000 جنيه جنوب سوداني أو يزيد قليلاً، أي ما يعادل حوالي 20 دولار أمريكي، وهو مبلغ ضئيل جداً مقابل ارتفاع الأسعار وطبيعة العمل المرهقة والقاسية.

اقتصرت التغطية الرئيسية للصحف على الأحداث المحلية التي تقع في العاصمة جوبا بسبب غياب مراسلين لها في الولايات، وعدم قدرة الصحف على سداد نفقاتهم، وانحصر نطاق توزيعها على العاصمة فقط. وبذا أصبحت أقرب إلى صحف محلية Regional Newspapers بدلاً من صحف قومية National Newspapers  .. وهذا أيضاً يعود إلى الصعوبات المالية واللوجستية، وعائق الترحيل لعدم انتظام خطوط الطيران الداخلية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن غياب شركات التوزيع المتخصصة والمعتمدة لدى سلطة الصحافة يعتبر أحد العوائق الرئيسية أمام إنتشار الصحف ووصولها بسهولة إلى الولايات وبعض المقاطعات الرئيسية، وتتولى إدارات الصحف بنفسها مسألة التوزيع.

الصحافة في مواجهة الفكر التسلطي:

تزايد حجم القيود القانونية والسياسية المفروضة على الصحافة في الآونة الأخيرة، وذلك على الرغم من تنسم الصحفيين بعض الارتياح بعد تأسيس سلطة الصحافة ومفوضية الإعلام التي تأخر تكوينها منذ إجازة قوانين الإعلام في  العام 2013. وتعتبر السلطة كياناً رسمياً "يتمتع باستقلالية إدارية، ومهمتها تنظيم الصحافة وتطويرها، ومراقبة صناعتها، والتخطيط وإدارة الترددات الإذاعية" (7). ولكن لم يلبث أن تحولت إلى أداة حكومية لقمع الآراء وتهديد الصحف والصحفيين وفرض الرقابة القبلية وحجب المقالات. وقاد ذلك إلى مواجهة مع بعض البيوتات الإعلامية. ونشير هنا إلى حادثتين: الأولى، منع صحيفة الوطن من تغطية أخبار الاحتجاجات في السودان وإكراه رئيس تحريرها مايكل ريال كريستوفر على كتابة إعتذار بهدف إذلاله، وانتهى الأمر لاحقاً بإيقاف الصحيفة عن الصدور لمدة شهر بعد أن لجأت السلطة إلى قضية الترخيص، الذي يعتبر من أسوأ القيود القانونية التي تستخدمها الحكومات القمعية لانتهاك حرية الصحافة وإسكات الأصوات الناقدة، وكان من الطبيعي أن تصف إدارة الصحيفة القرار بأنه "ذريعة لإغلاقها". في الحادثة الثانية، منعت لجنة الرقابة القبلية pre-censorship صحيفة الموقف، في ظرف شهر واحد، من نشر مادتين: الأولى شكوى من قبل مجلس إدارة صحيفة الوطن، والثانية الجزء الثالث من سلسلة المقالات المترجمة والمعنونة بـ "إعوجاج الفكر السياسي وأزمة بناء الأمة والدولة بجنوب السودان" للدكتور بيتر أدوك نيابا. وفي المرتين لم يتم إخطار هيئة التحرير مسبقاً بالقرار، بل حدث ذلك ليلاً بالمطبعة، فخرجت الصحيفة إلى الشارع في اليوم التالي بمساحة خالية، في إنتهاك سافر للحقوق. وبالرغم من تقديم الصحيفة إحتجاجاً رسمياً لسلطة الصحافة إلا أنها تجاهلت الأمر. لقد حدث ما كان يخشاه الصحفيون من تواصل الإنتهاكات ضد حرية الصحافة ورفض الآراء الناقدة والمخالفة لرأي السلطة، في محاولة لصناعة صحافة موالية وتطبيق ما يعرف بـ"الفكر التسلطي"، وذلك بتشديد القيود القانونية على الصحف وفرض الرقابة القبلية واللاحقة "بما يضمن ولاء الصحف أو وسائل الإعلام الأخرى ولاءً كاملاً للسلطة وبالتالي الحد من حرية هذه الوسائل في التعبير أو مناقشة ما تصدره السلطة القائمة من قرارات أو ما تقوم به من أعمال". (8)

هذه العلاقة السيئة نتجت من الصدام بين الصحافة والحكومة حول كيفية تغطية أخبار الحرب ومفاوضات السلام، إذ سعى كل طرف لحماية مصالحه، أحياناً ضد الحقيقة والمصلحة العامة. وفشلت كل مساعي رأب الصدع وتقريب وجهات النظر وبناء الثقة المفقودة. ويمكن الجزم بغياب نية التوصل إلى صيغة تفاهم مرضية للجانبين.

تجاهلت وزارة الإعلام والبث من قبل ترشيحات الصحفيين لممثليهم في "سلطة الصحافة" أثناء تكوينها، وجاءت بشخصيات مغمورة من خارج الحقل الصحفي، في تصرف لاقى انتقاداً كبيراً من الصحفيين ونقابتهم، ومثل ذلك بداية علاقة سيئة بين الصحافة والحكومة، مدعومة بسجل سابق مقلق من الانتهاكات التي ارتكبت ضد الصحافة والصحفيين.

أيضاً، في التاسع عشر من شهر مارس المنصرم، نظمت سلطة الصحافة بالتعاون مع منظمة صحفيين من أجل حقوق الإنسان (جهر) ورشة تدريبية بجوبا استمرت ثلاث أيام بهدف تعزيز العلاقة بين وسائل الإعلام والأجهزة الأمنية وفهم دور الإعلام في المجتمع. وشارك في الورشة قادة رفيعي المستوى من الوحدات العسكرية، ومدراء الشرطة بالولايات، وإدارية منطقة أبيي الخاصة، ومدراء وحدة جهاز الأمن الوطني بالولايات، وعدد من الصحفيين (تمثيل ضعيف)، وممثلي المنظمات الصحفية، وآخرين. وكواحد من المشاركين، يمكنني القول أن الورشة لم تقطع شوطاً كبيراً في تحسين هذه العلاقة المضطربة، ولم تحقق التفاهم المطلوب، وفشلت في تضييق فجوة عدم الثقة. ورغم الوقوف على مكامن الخلل، ترك المنظمون الحبل على الغارب فتبادل المشاركون الاتهامات، وكان واضحاً أن معظم المسؤولين الأمنيين يجهلون الكثير عن دور الإعلام في المجتمع، خاصة مجتمع يعيش أزمات كمجتمعنا، بل ظل نفر منهم يردد بأن الصحفيين يعملون تحت تأثير جهات خارجية. وهنا نشيد بشجاعة الصحفية ميري أجيط مديرة رابطة تطوير الإعلام في جنوب السودان "أمديس" التي دافعت بضراوة عن الصحافة والصحفيين، إذ قالت: "الصحافيين ليسوا أعداء للحكومة ولن يكونوا كذلك .. هم مواطنون يهمهم أيضاً مصلحة ومستقبل بلادهم ويخدمونها عبر منصة الإعلام".

نحو صحافة مسؤولة ومهنية:

وقعت الصحافة خلال السنوات الماضية في أخطاء عديدة. غابت المهنية عن المادة التحريرية، وسمحت بعض الصحف بمرور كتابات ترتقي لخطاب الكراهية والتحريض الإثني، وفردت أخرى صفحاتها لمعارك تصفية الحسابات السياسية مدفوعة الأجر، وتلميع شخصيات بعينها، في أبشع تمظهرات الصحافة الصفراء. وتنازلت الصحافة طوعاً عن دورها الريادي في التوعية والتثقيف والتعليم والتربية، وتراجع خطابها إلى الحضيض بشكل مخيف، وتحولت لمنابر إساءة وبذاءة وساقط القول، وتجاهل العديد من الصحفيين عمدا ميثاق الشرف الصحفي، وارتكبوا تجاوزات خطيرة بحق المهنة.

وجاءت الأزمة الأخيرة، لتسقط الأقنعة عن وجوه العديد من الأفراد الذين اقتحموا بلاط صاحبة الجلالة، بدوافع انتهازية صرفة.

وفي مجال الإعلان، تقع أخطاء شبه يومية وبشكل متعمد من الصحف، وذلك بزيادة حجم المساحة المخصصة للإعلان في مادة الصحيفة، تصل أحياناً نسبة 50 %، أي مناصفة للمادة الكلية، وهذا منافي لقواعد الإعلان الصحفي. هذا بالإضافة إلى أن مضمون الإعلان نفسه الذي قد يتجاوز المعايير والأخلاقيات.

تضررت سمعة المهنة أشد الضرر من الصحفيين أنفسهم. إذ انتشرت ظاهرة شراء الأقلام واستلام الرشاوى والهدايا والعطايا من المسؤولين الحكوميين أو رجال الأعمال أو المؤسسات أو المنظمات الخاصة. وبرزت على السطح فئتان شكلا خطراً على سمعة ومستقبل المهنة: فئة استخدمت الصحافة لتمرير خطاب أحادي وتغبيش الوعي وتخدير الجماهير وتعمية الحقائق بهدف الحفاظ على الموازنات القائمة، وفئة أخرى امتطت الصحافة للحصول على المال وتراكم الثروة وخلق مناطق نفوذ ونسج شبكة علاقات واسعة مع المتنفذين ورجال الأعمال والشركات لتحقيق منافع شخصية. وهنا غابت المهنية القائمة على الأخلاق والنزاهة والمصداقية وأصبحت الصحافة، كما يقول سيريل لوميو في كتابه القيم (تجليات الذاتية في العمل الصحفي) "مصدراً لكسب القوت ووسيلة نحو الإرتقاء إلى عوالم أفضل"، ولكن بطرق ملتوية ومريبة.

إن تقييم تجربة الصحافة في جنوب السودان خلال ما انصرم من سنوات يتطلب النقد الصادق، ومراجعة شاملة للتجربة، والوقوف على مكامن الخلل والاعوجاج قبل الحديث عن التحول المنشود في الصحافة.

يجب أن تتضافر كافة الجهود لوضع اللبنات الأساسية لمنظومة إعلامية متكاملة تشمل الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية عبر خطة إصلاحية ممرحلة تتبناها الدولة، وبدعم من قبيلة الصحافة والمنظمات الصحفية الوطنية والأجنبية وأصحاب المصلحة، تبدأ بصياغة سياسة إعلامية هادفة قابلة للتطبيق، وصون الحريات، خاصة حرية التعبير التي تعد أساس الحريات المدنية، ومراجعة التشريعات المقيدة لحرية الصحافة، وزيادة الميزانيات المخصصة للإعلام، وتأهيل البنى التحتية، وتدريب الكوادر، وتنفيذ المشاريع ذات الصلة، على غرار المطابع ومصانع الأحبار والورق ومدخلات الطباعة الأخرى، وتخفيض التعرفة الجمركية على المعدات الصحفية، وإعفاء الصحف من ضريبة أرباح الأعمال، وتأسيس مراكز معلومات مواكبة للتطور التقني والتكنولوجي، وإلزام شركات الاتصالات بتحسين خدمات الاتصال والانترنت. دعم مدرسة الإعلام بجامعة جوبا، وإشراك الصحفيين في صنع القرارات المتعلقة بمهنتهم، وخلق قنوات تواصل بين بيوتات الإعلام والحكومة، وقبل كل ذلك، تنفيذ بنود إتفاقية تسوية النزاع بين الأطراف، بما فيها بند إصلاح المؤسسات ومراجعة القوانين ذات الصلة، تمهيداً للتحول الديمقراطي الحقيقي في البلاد. فلا صحافة حرة ومسؤولة ومهنية في بيئة غير ديمقراطية.

ختاماً:  هنالك ضرورة لإنضواء الصحفيين تحت مظلة جامعة تحقق التعاون والترابط المطلوب وتعطي الإحساس بالإنتماء للمهنة. فاتحاد الصحفيين الحالي (UJOSS) لا يجد الإجماع من قبل الصحفيين، وتقتصر عضويته على عدد محدود، فضلا عن عدم فعاليته وضعف نشاطه، ويحتاج إلى مراجعة شاملة وإعادة الهيكلة.

يجب تنظيم الشؤون على نحو أفضل وخلق تواصل وشراكات مثمرة بين بيوتات الإعلام وبين الصحفيين كأفراد، والإلتزام بأخلاقيات وقواعد العمل، وعدم التهاون في الدفاع عن حرية الصحافة، والحفاظ على حيادية واستقلالية المهنة، وترقية أوضاع حقوق الإنسان في التغطية الصحفية، خاصة أوضاع الفئات المستضعفة كالنساء والأطفال والمسنين، ودعم السلام والمصالحة المجتمعية ومقومات الديمقراطية، وتعزيز الوحدة الوطنية والتنوع والثراء الثقافي.

الصحافة الحرة والرشيدة هي الصوت الأصيل المعبر عن لسان حال المواطنين البسطاء، وتعكس همومهم ومشاكلهم وتطلعاتهم في الحياة والعيش الكريم. وعليها تقع مسؤولية تزويدهم بـ"المعلومات الصادقة التي تساعدهم في تكوين رأي عام صائب عن واقعة من الوقائع أو مشكلة من المشكلات" (9) وفي دولة تمر بمخاض التأسيس وتعاني من مشكلات سياسية واجتماعية وثقافية، فإن: "الحاجة للرأي المخالف لرأي الدولة، أشد إلحاحاً من الحاجة للرأي الموافق، ولا يسد الحاجة للرأي المخالف إلا صحافة متحررة من إيحاء السلطة" (10).

الهوامش:

  1. صحيفة الموقف: حوار الكاتب مع محافظ مقاطعة راجا، جيمس بنجامين بوبو، واو - فبراير 2015.
  2. صحفيين من أجل حقوق الإنسان (جهر): التقرير السنوي حول رصد وتوثيق حالة وأوضاع حرية الصحافة والتعبير في السودان وجنوب السودان (3 مايو 2015 - 2 مايو 2016). 
  3. فكتور كيري واني: الصحافة السودانية - تجربة الجنوب 1940 – 2005، ص 10.
  4. نفس المرجع ص 14. 
  5. نفس المرجع ص 48.
  6. نفس المرجع 
  7. قانون سلطة الصحافة، 2013.
  8. الدكتور عادل محجوب أحمد العاقب: المدخل إلى علم الصحافة، ص 85. 
  9. نفس المرجع ص 40.
  10. صلاح الدين حافظ: أحزان حرية الصحافة، مركز الأهرام للترجمة والنشر.

*ملوال دينق – صحفي يعمل بصحيفة الموقف اليومية المستقلة، جوبا – جنوب السودان ، يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: Malualdeng22@gmail.com


مقالات الرأي التي تُنشر عبر موقع راديو تمازج تعبر عن آراء كُتابها وصحة أي ادعاءات هي مسؤولية المؤلف، وليست راديو تمازج