اذهب إلى المحتوى الرئيسي
بقلم: لوتولي لو لوري - ٢ مايو ٢٠١٩

رأي: تظاهرة فوق قطار متحرك

لقد انبهر العالم بمشهد القطار القادم من عطبرة مزدحماً بالمتظاهرين المتوجهين للإنضمام إلى جموع المعتصمين أمام القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية بالخرطوم. ضاقت بهم القطار مما حدا بنفر غفير منهم للتمركز على سقفه. ذلك المنظر البديع قد نفض غبار الزمن عن ذكريات أيام الدراسة عندما كنت وزملائي نستقل قطار نيالا لتمضية أيام الإجازة مع أهلنا في الجنوب الغربي من البلاد. إنها لرحلة طويلة تبدأ بركوب الباخرة  من مدينة ملكال فى الجنوب إلى مدينة كوستي حيث تنتهي خط الملاحة النهرية في النيل الأبيض. و من كوستي تبدأ الرحلة بالقطار غرباً مروراً بمدن كثيرة من ضمنها مدينتي المجلد وبابنوسة حيث نتحول إلى قطار آخر يطلق عليه إسم قطر (قطار) الجنوب و الذي محطته الأخيرة هي مدينة واو في جنوب السودان. لقد كنا نفضل البقاء على سقف القطار للإستمتاع بالمناظر الخلابة و الطراوة. 

 و عودة إلى موضوعنا الأساسي، فقد شد وصول القطار إلى ساحة الإعتصام إنتباه الجماهير على مستوى العالم أجمع. فما من جهاز إعلامي رائد أغفل أو تغاضى عن نقل ذلك الحدث و الذي يعتبر ظاهرة فريدة في حد ذاته. فلأول مرة يشاهد العالم تظاهرة صاخبة فوق قطار يتحرك الهوينا. ما يحدث في السودان الآن ما هو إلا دروس و عبرات عظيمة لشعوب المنطقة والعالم قاطبة. في اقتلاع نظام البشير من الحكم لم يكن بالأمر السهل باستخدام الوسائل المعهودة. فقد نجح نظام الإنقاذ في بسط سيطرته الكاملة على مقدرات البلاد بإتباع أسلوب التغلغل و زرع كوادره في كل مؤسسات الدولة ومرافقها الهامة. و لم يتوانى الإنقلابيون الجدد في صبيحة ٣٠ يونيو عام ١٩٨٩ من إحالة كل من لا ينتمي إلي تنظيم الجبهة الإسلامية  القومية أو من يشك في ولائهم من منسوبي القوات النظامية إلى المعاش. و قد طالت عمليات الإقصاء و الإبعاد الخدمة المدنية في تطبيق صريح لسياسة التمكين تم بموجبها تسريح عشرات الآلاف من الموظفين و الموظفات من ذوي الكفاءات و إحلال "الجبهجية" مكانهم. و قد أطلقوا على تلك الخطوة الجائرة مسمى الإعفاء من الخدمة للصالح العام. ترتبت على ذلك هيمنة النظام على مفاصل الدولة والانفراد بالحكم بلا منازع.      

 صعود نجم نظام الإنقاذ في السودان و سيطرته على مقاليد الحكم يشبه إلى حد كبير نظام حزب البعث العربي الإشتراكي بشقيه العراقي و السوري في كل من العراق و سوريا. في حالة العراق، تم القضاء على النظام بواسطة التدخل العسكري الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. أما في سوريا فلم يفلح المعارضون في إزاحة حكومة الرئيس بشار الأسد من الحكم رغم حرب ضروس أتت على الأخضر و اليابس. و السبب هو أن التدخل العسكري الروسي أنقذ النظام من هزيمة حتمية في ظل تلكؤ و تردد من أمريكا وحلفائها في دعم المعارضين بصورة فاعلة.                   

 الوضع السوداني يختلف بشكل كبير عن الحالتين السابقتين. فالتدخل الدولي لصالح ثوار السودان لم يكن وارداً البتة. فلم تكن هناك أية وسائل لإسقاط الرئيس البشير غير التي استخدمها الثوار من تظاهرات واعتصامات متواصلة أفقدت النظام توازنه. وهنا تفتقت أذهان قيادات الثوار المكونة من تجمع المهنيين السودانيين و قوى إعلان الحرية والتغيير عن اسلوب للمواجهة لا يستطيع النظام قهره و هو الالتزام بسلمية التظاهرات. لقد كان أمل النظام هو تورط الثوار في أعمال عنف و تخريب للمنشآت العامة و الخاصة مما يعطيها المبررات المنطقية لاستخدام القوة لفض التظاهرات و من ثم وأد الثورة في مهدها. محاولات النظام المستميتة لإستدراج الثوار لارتكاب مثل هكذا أعمال  باءت كلها بالفشل بسبب وجود قيادة واعية جنبت الثوار الوقوع في فخ النظام المتهالك. فهنيئاً لقيادات الثوار على كافة المستويات، فقد أداروا المعركة مع النظام بمستوى عال من الحنكة و الاقتدار.      

الثورة السودانية مرشحة للدخول في موسوعة غينيس للأرقام القياسية من حيث أنها ظلت سلمية على مدى أكثر من أربعة أشهر. كما أنها تميزت بحضور قوي للعنصرين النسائي و الشبابي. قد يشكل ما حدث في السودان حداً فاصلاً بين حقبة الانقلابات العسكرية و غد مشرق ديدنه هو الحرية و الديمقراطية و إعلاء حكم القانون. دول الجوار و العالم من حولها مدعوة للتأمل في التجربة السودانية. فإذا كان هناك درس واحد يستخلصها شعوب المنطقة من هذه التجربة الرائعة، فهو بلا شك أن إرادة الشعوب لا تقهر.                                                                           

 بقي أن نقر بأن الرؤية لم تتضح بعد عن مآلات سقوط نظام الإنقاذ حيث ما زال النصر النهائي الذي يبتغيه شباب الثورة قاب قوسين أو أدنى. من الواضح أن هؤلاء الشباب و الشابات قد كانوا بمثابة الوقود و العجلات التي سارت عليها عربة الثورة. و على هذا القياس، فإنه من المجحف إقصائهم عن الاشتراك في الحكومة القادمة بحجة صغر السن أو عدم التمتع بالخبرة السياسية الكافية.

 فإذا كانت دولة عظمى مثل فرنسا ينتخب شعبها  رئيس جمهورية شاب هو إمانويل ماكرون، و تأتمنه على زرها النووي،  فما الذي يمنع السودان و دول العالم الثالث و التي لا تملك السلاح النووي من فعل ذلك؟ إن إشراك هؤلاء الشباب في الحكم أو بالأحرى إفساح المجال لهم لقيادة المرحلة القادمة ستجلب دماء جديدة إلى منظومة الحكم تحمل رؤى و مفاهيم عصرية لمعالجة تحديات عالم اليوم.

 بلا شك هناك محاذير من أن لا تتحقق كل تطلعات الشعب السوداني في التغيير بتكرار السيناريوهات السابقة حيث حصدت بعض القوى السياسية ثمار الثورة من دون أن "تزرع". و في حقيقة الأمر،  يظل هذا الاحتمال وارداً بشكل ما. و ختاماً، لا أملك إلا أن أحيي الثوار السودانيين شيباً و شباباً في معركتهم الكبرى ضد نظام الإنقاذ.                                                                             


مقالات الرأي التي تُنشر عبر موقع راديو تمازج تعبر عن آراء كُتابها وصحة أي ادعاءات هي مسؤولية المؤلف، وليست راديو تمازج